في الوقت الذي يصبح فيه العالم أكثر ارتباطاً واعتماداً على بعضه البعض، يبدو أننا نقارب المشكلات المطروحة بنفس العقلية المنغلقة المستندة إلى ما يعرف بالمعادلة الصفرية التي تعني إما الحصول على كل شيء، أو لا شيء، وذلك رغم ما تمليه معطيات الواقع المعاصر من شبكات رقمية واقتصاد معولم يربط البشر بمصالح مشتركة ويجعلنا أكثر التصاقاً ببعضنا البعض، هذا فضلاً عما تستدعيه المنافع المتبادلة في العالم من علاقات إنسانية على أكثر من صعيد تضعنا وجهاً لوجه مع الآخر المختلف عنا، وتدفعنا دفعاً للتعرف إليه وفهم ثقافته وتجربته التاريخية المختلفة. وفي العالم اليوم لم يعد أحد يعيش بمعزل عن الآخر يتأثر بما يصيبه وقد يتضرر بما يلم به من أزمات، ولعل الدليل الأوضح على ذلك الأزمة الاقتصادية التي كشفت مدى ارتباط الأسواق المالية في العالم وتداخلها، فإذا ضربت الأزمة المالية اليونان، ومست قدرتها على سداد ديونها تداعت البنوك في مناطق مختلفة من العالم. وإذا هز زلزال مدمر اليابان امتدت تداعياته الاقتصادية إلى خارج الحدود، كما أن القلاقل السياسية التي تعيشها باكستان تؤثر على الجوار، بل وعلى السلام والأمن الدوليين. وبسبب اتساع دائرة الإعلام، والقدرة المتزايدة للناس على معرفة أخبار غيرهم، أضحت مشاكل كاليفورنيا مصدر خوف لدى سكان نيويورك والعكس. لكن رغم كل هذا الارتباط الذي يطبع عالمنا اليوم ودرجة التقارب الكبيرة التي أتاحتها وسائل الإعلام وثورة الاتصالات، علاوة على التداخل الكبير في المصالح الاقتصادية والمالية بفضل ديناميات العولمة وتحرير التجارة والأسواق مازال البشر يفكرون في إطار محدود وضيق لا يرى في الخلافات سوى فرصة لتحقيق الكسب على الآخر في غياب تام لإمكانات التوافق، بحيث تغلب الأنانية وانعدام التسامح والتصلب على العلاقات بين الأفراد والمجتمعات والدول. على الأقل هذا ما يبدو من خلال استعراض ما يجري في العالم سواء تعلق الأمر بالمجزرة الرهيبة التي اقترفها أحد الإرهابيين المحليين في النرويج. أو الصراع العقيم الدائر في الكونجرس الأميركي بين الأطراف السياسية حول رفع سقف الدين، إذ رغم اختلاف هذه الحوادث في طبيعتها وأبعادها، فإنها تشترك في التفكير الضيق والمعادلة الصفرية التي نريد كل شيء أو لا شيء مستبعدة أي مجال لتوافق يحقق المصلحة للجميع. ومع أني أدعو للتوافق لا يعني ذلك أني من المناهضين للصراع في جميع الحالات، إذ يأتي وقت على الإنسان لا مفر فيه من الصراع بسبب الاختلافات المستحكمة، بل حتى الحرب في بعض الأحيان تصير ضرورية عندما تُستنفد كافة الحلول، لذا ورغم ما تدعو له النخبة الفكرية في البلدان الغربية من الحاجة إلى تكثيف فرص التقارب بين الناس والتعارف بين الثقافات المختلفة علَّ ذلك يُذهب بعض الصور النمطية غير المبررة وبعض الأفكار الجاهزة التي غالباً ما تكون خاطئة أو تنطوي على المبالغة، إلا أن ذلك مع الأسف ورغم تحققه في عالم اليوم لم يساهم في تبديد التوجس ونزع التصورات الأنانية التي ترى في خسارة الآخر ربحاً للأنا، فنحن اليوم نعيش طفرة في الاتصالات بالنظر إلى ما توفره التكنولوجيا الحديثة من إمكانات، فضلاً عن التطور المذهل في وسائل الاتصال وظهور الإعلام الجديد وشبكات التواصل الإعلامي. ومع ذلك لم نصل إلى مرحلة التوافق، بل ساهم التواصل بين البشر إلى إبراز الاختلافات بينهم بدرجة لم تكن معروفة من قبل. وكما أشار إلى ذلك الكاتب "روبرت رايت" في كتابه "منطق المصير الإنساني": "إذا حدق شخصان في بعضهما البعض وأطالا النظر فذلك يعني إما أنهما سيتحابان، أو سيتقاتلان، والأمر نفسه ينطبق على المجتمعات، إذا حصل تواصل واحتكاك لفترة طويلة فذلك يعني إمام التجارة، أو الحرب". وفي الحالة الأميركية نرى كيف أن مسألة رفع سقف الدين، التي كانت في السابق أمراً عادياً يتم التوافق عليه بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" في الإدارات المختلفة دون مشاكل، تحولت إلى معركة حقيقية في الكونجرس الحالي بعد رفض أطراف سياسية النظر إلى الصورة الأكبر وتغليب مصلحة البلد ما دام ذلك في نظرها يعطي نقاطاً للخصم السياسي، وهو الأمر المرفوض من وجهة نظر الجناح "اليميني" داخل الحزب "الجمهوري"، الذي يريد كل شيء أو لا شيء، وفي سبيل ذلك يمكن التضحية بمصلحة البلد على أن يكسب الخصم بعض النقاط، والنتيجة أن الصراع أوصل أميركا إلى حافة التخلف عن سداد ديونها مع التداعيات الدولية على الاقتصاد العالمي. والأمر نفسه ينطبق على تفكير "بريفك" في النرويج، إذ رغم السجل الإيجابي للنرويج في اندماج المهاجرين لم يرَ فيهم "اليمين "المتطرف إلا تقويضاً للمجتمع، بحيث لم يخطر على باله، كما على بال باقي الأحزاب اليمينية في أوروبا المعادية للمهاجرين أنه يمكن الحفاظ على الاستمرار الثقافي للمجتمعات وفي الوقت نفسه التعايش مع المهاجرين، لكن "بريفك" على ما يبدو فضل ضرب مجتمعه وقتل مواطنيه على أن يعطي مكاسب للمهاجرين، والمشكلة أن التفكير القائم على المعادلة الصفرية لم يعد مجرد تفكير شاذ، بل بات يؤثر سلباً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي كما شهدنا في النرويج والولايات المتحدة، لذا لا بد من التشديد مرة أخرى أنه فيما يتعلق بالهجرة، فإنه يمكن دائماً الجمع بين التغيرات الديموغرافية التي يخشى منها البعض وبين الاستمرارية التاريخية والثقافية للمجتمعات الأوروبية. أما في الحالة الأميركية، فيتعين الوعي بأن تحقيق النصر السياسي لا يقوم بالضرورة على هزيمة الآخر، وبأن هناك وضعاً يمكن فيه للجميع أن يخرج ظافراً. جريجوري رودريجز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"